قصة الطريق إلى القدس
هل أنت ممن زار القدس الشريف حتى ولو في الحلم؟ نتمنى لك ذلك، ولكن ، كيف كانت قبل نكبة 1948م؟
وماذا حل بها ، وبأهلها بعد النكبة؟
تصف حكاية حكاية الطريق المؤلم إلى القدس الشريف، أوضاع هذه المدينة قبل النكبة، حيث كانت مدينة عامرة، تعج بالزوار والتجار، وفيها من كل أصناف البشر،
وهي مدينة تاريخية اسلامية، ولكن مع قدوم الصهاينة تغير وجهها، وفي حكاية الطريق إلى القدس:
يدور حديث بين ثلاثة من تجار مدن فلسطين ليحكوا لنا بعضاً من مآسيهم.
على عتبات باب العمود
في يوم شتاء قارص، دخل ثلاثة من كبار تجار الفواكه قبل نكبة عام(48)، مدينة القدس:
هم الحاج (خليل، و هشام، وعبد العزيز)
وجلسوا على عتبات باب العمود في المسجد الأقصى.
وأخذوا يسترجعون ذكريات الماضي، عندما كانوا يتنقلون بتجارتهم من القرى، والبلدات الفلسطينية إلى القدس.
أثناء تجاذبهم أطراف الحديث، تلبدت السماء بالغيوم، وكاد البرق يخطف الأبصار، وتبعه صوت الرعد الذي زلزل المكان.
وما هي إلا لحظات حتى انهمر المطر.
فتح كل واحد كل واحد منهم مظلته؛ لوقايته من ماء المطر، وبقوا جالسين كما هم.
وبدأ الحديث حول وصف حكاية الطريق إلى القدس :
أولاً: رواية الحاج خليل
رفغ الحاج خليل رأسه وقال: هذا الطقس الممطر يذكرني بيوم مؤلم لن أنساه ما دمت حياً، وما دمنا جالسين ننتظر صلاه العصر، سأروى لكم حادثة هذا اليوم.
بعد جني البرتقال في يافا، وأرادنا تسويق بعضاً منه إلى القدس، كنت من التجار الذين يقومون بذلك،
حيث جُمِعَ البرتقال في صناديق، وحُمل في الشاحنات، وانطلقت الشاحنات باتجاه الطريق إلى القدس، وكان الجو ملبداً بالغيوم،
وسارت القافلة تتهادى بين الجبال.
وما إن انتصفت الطريق حتى أظلمت السماء؛
لتراكم غيوم سوداء غطت الحجب، فأدركنا أن المطر آت لا محالة، وسيكون غزيراً،
فطلبت من السائقين الإسراع في السير،
للوصول إلى أقرب قرية، قبل أن تقطع الأمطار الطرق.
انطلقت الشاحنات بسرعة؛ ولكن المطر كان لها بالمرصاد، فحجب الرؤية من شدة تساقطه، وغمرت المياه الطريق.
أصبحت معالم الطريق غير واضحة، ولم يستطع السائقون رؤية الطريق بوضوح.
لذلك حدث ما لم يكن في الحسبان، انحرف أغلب الشاحنات عن الطريق:
فمنها ما اصطدم بالصخور الواقعة بجانب الطريق،
وآخر وقع في حفر مملوءة بالماء، والباقي التصق بالوحل والطين التي أحدثتها الأمطار.
الخلاص من الورطة في الطريق إلى القدس
قال صاحبا الحاج خليل
وكيف تخلصت من هذه الورطة؟
تنهد الحاج خليل، وقال: جمعت السائقين والعمال،
واختبأنا في كهف قريب من الشاحنات حتى يهدأ المطر. أخذنا نتشاور في سبل الخلاص من هذه الورطة.
قلت للسائقين والعمال: فكروا معي جيداً.
ما السبيل للخلاص، مع عدم خسارة البضاعة وإيصالها في موعدها؟
لا تنسوا أن التجار في القدس ينتظرون البضاعة لتوزيعها على الباعة،
وكذلك أرجو عدم نسيان أن البضاعة إذا تركت في العراء مدة طولة ستفسد!
أجمع الحضور بأن السبيل الوحيد للتخفيف من هذه الورطة هو حمل أكبر قدر من البضائع في الشاحنات التي لم تصب بأذى،
وبذلك نتجنب أكبر قدر من الخسائر، وهكذا يتم إيصال ما استطاعت الشاحنات حمله إلى أسواق القدس.
لذلك حافظنا على مصداقيتنا في السوق.
ثانياً: الحاج هشام
قال الحاج هشام: حكايتك حكاية يا الحاج خليل.
هل تصدق أنني وقعت في ورطة أشد من ورطتك؟
قال الحاج عبد العزيز: هات ما عندك، واسمعنا يا حاج هشام .
بعد جني الموز من أريحا، وجمعه في صناديق وتحميله في الشاحنات،
انطلقت الشاحنات بين جبال أريحا، وما أن تجاوزنا أريحا ، وتوجهنا نحو الطريق إلى القدس،
وفي الطريق خرجت علينا جماعات متوحشة من الصهاينة، يحملون البنادق والعصي،
وقاموا بإلقاء الحجارة أمام الشاحنات وعليها مما اضطر السائقين على التوقف.
قامت جموع الصهاينة بتحطيم زجاج الشاحنات، واعطاب اطاراتها،
وبعثروا البضاعة، حاولنا مقاومتهم بما اوتينا من قوة، ولكنا كنا قلة، وغير مسلحين،
فما كان منا إلا أن هربنا اتجاه مزارع الزيتون، ومن ثم عدنا إلى أريحا، وفقدنا الشاحنات والبضاعة، ولكن الله سلم، ونجونا بأرواحنا.
قال الحاج خليل: نص الموت ولا الموت كله.
الحمد لله، أنا خسرت نصف بضاعتي، وسلم الله النصف الباقي، أما أنت فخسرتها كلها، المال معوض يا أخي ، والله سلم راسك.
ثالثا: الحاج عبد العزيز
قال الحاج عبد العزيز: حكاياتكم بسيطة بالنسبة لحكايتي، والله لو تعرفوا حكايتي ليبوس كل واحد منكم يده وجه وظهر!
ثم قال الحاج خليل: هي خسرانة خسرانة، هات ما عندك .
قال الحاج عبد العزيز: أنتم تعرفون أنني أحمل بضاعتي في السفن من حيفا إلى يافا، ثم ننقلها من يافا إلى القدس بالشاحنات.
في يوم انطلقت سفينة محملة ببضاعتي من ميناء حيفا متجه صوب يافا، وكانت السفينة تسير بمحاذاة الشاطئ، وكان الجو صحواً،
ولكن ما إن اقتربت السفينة من يافا بأميال حتى هبت عاصفة شديدة، وارتفعت الأمواج بشكل مخيف حتى كان بعضه يتدفق داخل السفينة،
وأخذت تتلاعب بالسفينة، والسفينة تميل يميناً ويساراً، وقد حاول قائد السفينة، ومعه البحارة التحكم في السفينة بكل ما أوتوا من قوة.
نهاية محزنة
وما هي إلا لحظات حتى انقلبت السفينة، وأصبح أعلاها أسفلها.
سكت الحاج عبد العزيز : ونظر إليه صاحباه، فإذا بالدموع تنهمر من عينيه. وبعد أن هدأ الحاج عبد العزيز، مسح دموعه ، وأردف قائلاً:
وما إن غرقت السفينة حتى علا الصيح، و أخذ من في السفينة بالقفز في الماء.
قفزت مع من قفزوا، فإذا أنا في قاع البحر ، فأخذت أسبح إلى أعلى،
واصطدمت يدي بقطعة من خشب السفينة، فأمسكت بها، ونظرت فإذا بأنوار مدينة يافا تتلألأ أمام عيني،
فأخذت أسبح في اتجاهها، وأخذ الموج يدفعني نحو الشاطئ.
وما إن وصلت إلى الشاطئ حتى رأيت ما أدهشني و أفزعني!
أدهشني أن أهل المدينة القاطنين جوار الشاطئ أتوا:
شبابهم وشيبهم، لإنقاذ الغرقى واسعاف المصابين،
وأفزعني أن رأيت رجالاً جرحى ممن كانوا في السفينة يتألمون، فأخذت أواسيهم وأتفحص ووجههم لكي أتعرف على المفقودين.
أخذت تدور في رأسي دوامات من الأسئلة!
أين الباقون؟ هل نجوا أم كانوا من المغرقين؟
وفي هذه اللحظات ، شاهدت جموعاً من الناس يلتفون حول أجساماً، لا أستطيع تمييزها من بعد. فأسرعت لتقصي الخبر.
سكت الحاج عبد العزيز، والدموع تكاد تنفجر من عينيه، وقال: رأيت أصحابي وأحبابي موتى.
نظر الحاج عبد العزيز إلى صاحبيه وقال:
هل مصيبتي كمصيبتكم؟ فقدُّتُ أصحابي ومالي!
قال الحاج خليل: من شاف مصائب غيره هانت عليه مصيبته!